في ثلاث سنوات، حصلت محافظة مأرب اليمنية على مكاسب كبيرة وتحققت فيها تنمية لم تكن لتحصل في ثلاثين عاماً من زمن الاستقرار. مأرب التي كان يخاف المسافر من المرور فيها ويخشى الموظف من الذهاب إليها صارت اليوم تحتضن أكثر من مليون ونصف المليون يمني، بسبب نزوح الكثيرين إليها.
"نحن في مأرب دعاة سلام وحب، وثقافتنا جمعت بين التاريخ العظيم وبين روح البداوة البسيطة النقية القائمة على القيم الأصيلة والعادات الحميدة"، يقول لرصيف22 الناشط اليمني صدام الأدور.
ويضيف: "نؤمن بأن القبول بالآخر قاعدة يجب أن تسود بين اليمنيين، وندرك أن الحروب لا تدمّر سوى الإنسان ولا أحد يربح فيها أبداً".
اليوم، فإن مأرب التي ينتقد الأدور "الظلم والتهميش اللذين لحقا بها على مدى سنوات طويلة، وشملا مختلف جوانب الحياة"، صارت برأيه مثالاً للبيئة التي يكون فيها الإنسان هدفاً للتنمية التي تضمن عيشه الحر والكريم.
مأرب... وريثة مملكة سبأ
"لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ" (سبأ/ 15). بهذا الوصف أشار القرآن إلى مملكة سبأ التي لا تزال بعض آثارها باقية إلى يومنا هذا في مدينة مأرب وما حولها. فمأرب كانت عاصمة لأقوى دولة يمنية على مر التاريخ وهي الدولة التي حكمت اليمن وجزءاً من إفريقيا خلال القرن العاشر قبل الميلاد.
خلال مئات السنين، حكم مملكة سبأ العديد من الملوك الأقوياء، في مقدمتهم الملكة التي أشار إليها القرآن في سورة النمل ("امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ") خلال سرده لقصة النبي سليمان والتي تشير أغلب النقوش إلى أن اسمها بلقيس وكانت تعبد الشمس حتى دخلت في دين التوحيد.
أنشأ السبأيون سد مأرب الذي يُعتبر أول سد في التاريخ البشري، وبفضله تحوّلت مأرب إلى أرض الجنتين، بحسب الوصف القرآني. إلا أنه في العام 570 قبل الميلاد تعرض السد للانهيار الكامل، واختلف المؤرخون حول أسباب ذلك، فتشرّد أبناء سبأ في شبه الجزيرة العربية وأماكن أخرى.
ظلت مأرب لفترة طويلة بعيدة عن الصراعات مع قيام العديد من الممالك بعد انهيار الدولة السبئية. واتخذت الممالك الجديدة مدناً أخرى عواصم لها.
بعد خروج العثمانين من اليمن في بداية القرن العشرين، صارت مأرب جزءاً من المملكة المتوكلية التي أعلنت عام 1914، وشاركت في ثورات ضد الإمامية، ومنها يتحدّر علي ناصر القردعي الذي قتل الإمام يحيى في ثورة 1948، كما كان لرجال مأرب دور كبير في هزيمة القوات الملكية وتحرير صنعاء من حصارها الشهير عام 1967 وانتصار الجمهورية.
مأرب قبل الحرب الأخيرة
تقع مأرب شرق الجمهورية اليمنية وتبعد عن صنعاء 170 كيلومتراً، وبلغ عدد سكانها 238 ألف نسمة وفقاً للتعداد السكاني لعام 2004، وهي من أغنى محافظات اليمن إذ تنتج نصف صادرات اليمن من النفط الخام وتنتج الغاز اليمني كاملاً، وتأتي في المركز الثاني من حيث تلبية احتياجات اليمن من المنتجات الزراعية.
وتحتوي المحافظة أيضاً على الكثير من الأماكن السياحية المشهورة، وفي مقدمتها سد مأرب بنسختيه القديمة والجديدة (بني عام 1986 بدعم من الإمارات)، وعرش بلقيس ومعبد الشمس وغيرها من المعالم التي جعلت منها مقصداً للسائحين على مر سنوات طويلة وهدفاً للبعثات الاستكشافية التي توقفت حالياً بسبب الحرب.
في شهر فبراير من العام 2014، أعلن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي تحوّل اليمن إلى اليمن الاتحادي الذي يتألف من ستة أقاليم منها إقليم سبأ الذي يضم محافظات مأرب والجوف والبيضاء، وأعلن مدينة مأرب عاصمة له.
ومع وصول الحوثيين إلى عمران ومن ثم إلى العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014، كانت مأرب قد استعدت لهجوم محتمل للحوثيين عليها، وأبدى رجالها مقاومة شديدة منعت الحوثيين من السيطرة عليها بالكامل، لكنهم اقتربوا كثيراً من ذلك، قبل تدخل التحالف العربي في 26 مارس 2015.
مأرب قبل وبعد الحرب
ظلت مأرب لسنوات طويلة ذات سمعة سيئة وحمل اليمنيون صورة نمطية سلبية عنها ارتبطت باختطاف السائحين وقطع الطرق واضطهاد النساء، وكانت توصف بالتخلف والجهل. إلا أن الحرب أعطتها ما لم تحققه لها سنوات الاستقرار الطويلة.
يشيد الناشط صدام الأدور بشخصية الشيخ سلطان العرادة الذ عُيّن محافظاً لمأرب، ويقول إن "توفير الكهرباء والصحة والتعليم وتأهيل الشباب ورفع عائدات التنمية وتحقيق الأمن والاستقرار" كانوا في صدارة أولوياته.
ويقول إنه خلال الحرب، "تم الحفاظ على مؤسسات الدولة وظلت تقدم خدماتها بشكل طبيعي ولم تتوقف مرتبات الموظفين والنفقات التشغيلية للمؤسسات الحكومية ولم تتأثر الخدمات وأبرزها الكهرباء".
ويضيف الأدور أن مأرب التي كان فيها عدد محدود من منظمات المجتمع المدني أصبح فيها اليوم أكثر من 100 منظمة تعمل على تقديم خدمات مختلفة لسكان المحافظة، إذ استقبلت مئات المنظمات المحلية التي أغلقت مكاتبها في محافظات أخرى بسبب الحرب.
وبرأيه، في فترة بسيطة، تحوّلت المحافظة إلى أكثر محافظات اليمن استقراراً، إذ "تقوم الأجهزة الأمنية بدورها كما يجب".
وتقول الناشطة انتصار القاضي لرصيف22 إن "مأرب أُعطيت الفرصة لتظهر للناس على حقيقتها"، وتضيف: "سابقاً كان الجميع لا يعرف مأرب إلا عن طريق ما يروّج له الإعلام، ما خلق لدى الناس صورة سيئة عنها جعلت الكثيرين يخافون من زيارتها. ولكن مع الأحداث الأخيرة، وبسبب صمود مأرب، لجأ الكثيرون إليها وشاهدوا مأرب الحقيقة، وامتد التغيير الذي شهدته ليطال نظرة الآخرين إليها".
ومن الخطوات التي تشيد القاضي بها تعيين محافظ من أبنائها "ما جعلها تحصل على حصتها من الغاز والنفط والمنصوص عليها بـ20% من ثروة كل محافظة وهو ما لم تكن تحصل عليه من قبل".
وتتحدث القاضي عن تغيّرات اجتماعية تشهدها مأرب مثل ظهور المرأة في الأماكن العامة، بعد أن كان "من النادر أن تُشاهد امرأة في مأرب تدرس في الجامعة أو تعمل في أي مجال"، مشيرة إلى تقبّل المجتمع لهذا المستجدّ.
وتضيف أنه "توفّرت فرص كثيرة للنساء المأربيات للحصول على وظائف سواء في القطاع العام أو الخاص وهو ما كان صعباً قبل الحرب"، متوقعة أن "المستقبل سيشهد انخراط النساء المأربيات في المجال العام بشكل أسهل وستختفي العديد من القيود التي كانت تعيق انطلاقتهن".
مركز سكّاني
يقول الصحافي والمذيع التلفزيوني أحمد الواسعي لرصيف22 إن مأرب تحوّلت من محافظة نائية تقع في أقاصي شمال اليمن إلى مركز سكاني وتجاري واجتماعي مهم ومن صحراء يحتلها شارع ومجمع حكومي وحيد إلى حاضرة تتسع وتنمو يوماً بعد يوم وتتصاعد فيها حركة العمران بشكل مثير للاهتمام.
وبرأيه، "تحوّلت مأرب التي عاشت عقوداً من التهميش والإهمال إلى رقم صعب في المعادلة السياسية والاقتصادية والعسكرية في اليمن، وهي تقدّم اليوم نموذجاً استثنائياً للاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي وهي حالة جديرة بالاهتمام وتستحق الدراسة والمقارنة بغيرها من المدن المحررة والتابعة لشرعية الرئيس هادي".
تشهد مأرب حديثاً مشاريع تنموية هامة. عام 2016، وبقرار جمهوري أُنشئت جامعة سبأ التي يدرس فيها هذا العام أكثر من 5000 طالب وطالبة، وتجري توسعتها وتطوير مبانيها حالياً بعد شراء قطعة أرض مساحتها كيلومتر مربع بتمويل محلي. وتوفّر الجامعة 12 باصاً وحافلة تم تخصيصها لنقل الطالبات من المديريات إليها، لتشجيع التحاق الفتيات بالتعليم العالي. كما تم اعتماد موازنة لإنشاء مطار مأرب الدولي الذي يشهد حاليا أعمال بناء ضخمه للانتهاء منه قريباً.
ولكن تبقى العديد من المشاكل التي تواجه المحافظة. ويقول مدير مؤسسة سد مأرب التنموية ناجي عشال إن أعداد النازحين في ازدياد مستمر والمحافظة لم تكن مؤهلة أبداً لاستقبال أعداد كبيرة من البشر، خصوصا في ظل عدم وجود بنية تحتية قوية تواكب ذلك.
ويضيف أن مدينة مأرب لا توجد فيها مشاريع صرف صحي، وبالرغم من تنفيذ عدة مشاريع حالياً، إلا أنها لا تزال محدودة في المدينة فبعض مديريات المحافظة لا تزال تعاني من تردي الخدمات، ولا يزال هناك فساد في معظم الدوائر الحكومية في المحافظة.